A traditional beige two-story building with four mannequins in colorful dresses displayed in the front, against a clear blue sky.

محمد بنشلّال في الدوحة: منسوجات بيدي نحّات

22 يوليو 2025

بشرى المريخي

يَعمل محمد بنشلّال في الاستديو الخاص به في "ليوان: استوديوهات ومختبرات التصميم"، دون أن يعتمد على رسومات أولية أو مخطّطات، بل يتّبع ما يُمليه عليه حدسه، وما يبوح به القماش. هنا، يتأمل المصمّم المغربي-الهولندي في المدة التي أمضاها في الدوحة، وفي فلسفة النحت الكامنة وراء تصميماته، وفي أهمية أول معرض فردي له بالتعاون مع متحف قطر الوطني.

المشاركة مع صديق

بمجرّد أن يخطو الزائر داخل استديو بنشلّال في ليوان، تستقبله أنغام "ألف ليلة وليلة" بصوت كوكب الشرق، أم كلثوم، متمازجة بتناغم تام مع الأتُلييه، الذي كان سابقاً فصلاً دراسياً في مدرسة الفتيات. وهنا الموسيقى ليست مجرد مؤثرات صوتية في خلفية المكان، بل جزءاً أصيلاً من العملية الإبداعية لبنشلّال.

يؤمن بنشلّال أن الموسيقى تُثري العملية الإبداعية، وهي الآن تصدح بلا انقطاع.

يهمس المكان بحكاية من البساطة المقصودة؛ حيث لا يوجد سوى قماش، ومانيكان، ومقص، وخيوط، وضوء النهار الذي يتسلل برفق إلى قلب الاستديو. يشرح لنا بنشلّال كيف أنه لا يضع مخططات أولية لتصميماته، بل يقول: "ما أفعله هو أنني آخذ قطعاً من القماش وألقيها"، ويشير بأصابعه إلى جزء من تصميم على مانيكان، متابعاً: "هذا هو مخطّطي الأولي".

رجل يرتدي بدلة قشدية اللون يقف تحت ممر مقنطر مع فستان أزرق منحوت على عارضة أزياء في فناء مضاء بنور الشمس.

بنشلال مع عمله الفني الأزرق المنحوت في القصر التاريخي. تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

التصميم دون الاعتماد على مخطّط مبدئي

في مجال تحكمه الدورات الموسمية، يعمل بنشلّال على نحو مختلف؛ مستخدماً ما هو موجود من أقمشة لم تعد رائجة، تنتظر أن تُبعث فيها الحياة من جديد.

إن كان هناك متران فقط من القماش، فالقطعة ستكون صغيرة. أما إذا توفّرت عشرة أمتار، فقد تتحوّل إلى تحفة تخطف الأنفاس. يقول بنشلّال: "أنا لا أختار شكل الفستان النهائي، بل القماش مَن يختار".

بالنسبة لبنشلّال، لا يوجد روتين يومي محدد. يبدأ يومه بالمشي من مشيرب قلب الدوحة إلى الاستديو الخاص به، وغالباً ما يكون أول الواصلين.

يقول: "الشمس ساعتي، نستيقظ سوية". تتشكل أيامه لحظة بلحظة؛ بعضها يمر بهدوء، وبعضها الآخر يمتلئ بالأحاديث أو الزوار أو المنعطفات غير المتوقعة.

المدينة قريبة. المترو على بعد خطوات، المطاعم العالمية في المتناول، وكذلك السوق القديم بكنوزه من الخامات. لكن داخل فناء ليوان، يخفت كل ضجيج.

"هنا، تشعر وكأنك في عزلة عن العالم... داخل هذا الفناء، في هذه الواحة. لا أستطيع تخيّل مكان أفضل من هذا. كثيرون يسافرون بعيداً ليجدوا هذا النوع من السكينة".

"... ما يجعل هذا المكان مميزاً بالفعل هو أنه يشعرك وكأنك في بيتك الثاني".

في كل يوم، يعود إلى ما أنجزه بالأمس. إن أيقظ الفستان ابتسامته، أتمّ العمل عليه. وإن لم يفعل، بدأ بالتصميم من جديد.

زي نحتي معروض بجانب بئر تقليدية في ساحة التراث بمتحف قطر الوطني.

قطعة منحوتة من تصميم بنشلّال تُعرض في فناء القصر التاريخي. تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

عندما تمتزج العمارة بالموضة

قبل ثلاث سنوات، عرّفت سعادة الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني المصمم بنشلّال على ليوان. شكّلت تلك اللحظة بداية لعلاقة طويلة الأمد مع الدوحة، علاقة ستغدو لاحقاً نقطة تحوّل في مسيرته. ففي عام 2021، مهّد فوزه بجائزة "فاشن ترست العربية" الطريق لأول معرض فردي له في متحف قطر الوطني.

قبل أن يحتفي بي الغرب، كانت قطر من فتحت لي ذراعيها، نجاحي الحقيقي بدأ هنا. وما أجمل أن يُتوّج هذا النجاح بأول معرض فردي في متحف قطر الوطني؟

محمد بنشلّال

كان يغلب على المعرض الطابع الشخصي إلى حد بعيد، كل فستان وقف كمنحوتة، يتحاور مع غيره من الفساتين، ومع المعمار المحيط به. يقول بنشلّال: "أرى تصاميمي كمنحوتات، لا مجرد فساتين".

وقد عكست الأشكال المعمارية التي تُلهمه من الخطوط الحادة إلى الانحناءات الرشيقة ملامح المدينة نفسها. "لو وضعت مبنى متحف الفن الإسلامي إلى جوار مبنى متحف قطر الوطني، إلى جانب منحوتة ريتشارد سيرا، ستجدين أنها جميعها تُثري بعضها البعض. هذا بالتحديد أكثر ما يلهمني".

قطار بلا محطة

An elaborately sculpted red dress outside a beige building with palm trees under a clear blue sky.

تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

A brown sculpted dress on a mannequin standing in a sunlit courtyard with arched columns and ornate walls.

تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

يَصِف بنشلّال تجربته الإبداعية وكأنها حالة وجدانية: "حين تخطر لي فكرة، مثلاً قَصّة أو كُمّ، لا أستطيع التوقّف حتى أُنجزها"، ويتابع: "ما أحاول فعله هنا هو التحرّر من فكرة الخطة الصارمة أو المواعيد النهائية، أريد أن أستغل الحُرية المطلقة في الإبداع، لأصمّم دون أي ضغوط أو تحيّزات وهذا في نظري رفاهية حقيقية أجدها هنا، رفاهية أن أبدع، وأن أبدع حقاً لنفسي".

ليس له طريقة مُحددة يتّبعها، بل يقول: "حياتي متطرّفة بعض الشيء ولأنني أتنقّل كثيراً لا توازن فيها، ترتفع وتهبط كالأفعوانية. لكنني تقبّلت الأمر، وهذا ما ينعكس على طريقة عملي".

يرى بنشلّال مساره الإبداعي كرحلة لا نهاية لها، ويقول: أعتقد أن الرحلة الإبداعية تشبه السفر على قطار لا وجهة نهائية له، أنت تستمر في السفر وحسب، وبعد هذه السنوات كلها يسرّني أنني ما أزال على متن ذاك القطار".

ويضيف، مستحضراً دلالة اسمه:

اسمي بنشلّال؛ أي ابن الشلّال، فأنا أتبع سبيلي الخاص، الذي سيقودني إلى حيث يفترض بي أن أكون.

محمد بنشلّال

رجل يرتدي زيًا تقليديًا يمشي بجوار ثوب أزرق معروض على عارضة أزياء في فناء مضاء بنور الشمس مع أشجار النخيل.

إطلالة نحتية من القماش تستظل تحت نخلة، على بُعد خطوات من متحف قطر الوطني. تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

حول الإرث، والاستدامة، والتصميم عبر الزمن

يتعامل بنشلّال مع الاستدامة من منظور شخصي لا استعراضي؛ فممارسته تنبع من ذكريات الطفولة وحدسه الإبداعي، تدفعها رغبة صادقة تتجاوز القلق البيئي.
يقول: "كل شيء، بالنسبة لي، يعود إلى الشغف والرغبة في الصنع. اخترت هذه المهنة التي لا أشعر أنها مهنة بالمعنى التقليدي، بل أسلوب حياة لأنني لا أرى أي قيمة إبداعية في أن أصمم قطعة واحدة ثم تُنتَج في مصنع مئة ألف مرة. حينها، يصبح الأمر مجرد تجارة، لا أكثر."

ولم تتغير علاقته الشخصية بالحرفة منذ الطفولة:
"ما زلت ذلك الطفل الذي كان يخفي ماكينة خياطة والدته في غرفته، ويقص ملابسه ليعيد حياكتها. وما زلت أشعر أنني أفعل ذلك إلى اليوم."
ويتابع: "لا أعتقد أنني أُسهم في أي سلوك هدّام أو مُهدِر، فكل فستان أنجزه فريد من نوعه ومُفصَّل حسب الطلب. لا يمكنني تخيّل طريقة أكثر استدامة من هذه."

رجل يرتدي بدلة بيضاء يقف بالقرب من أربعة تماثيل عرض أزياء ترتدي ملابس منحوتة ملونة خارج مبنى بيج اللون في يوم مشمس.

المصمم يمشي بين منسوجاته المنحوتة. تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

تعترف عائشة السويدي، مدير ليوان، بالقيمة الفريدة التي يضيفها بنشلّال إلى مجتمع التصميم الإبداعي:
"مجموعة الأزياء الراقية (الكوتور) التي قدّمها، والمستوحاة من محيط ليوان وموارده الغنية، تعكس بروعة جوهر هذا المجتمع. تُلهم تصاميمه المقيمين والمصممين الآخرين، وتدعونا جميعاً إلى اعتبار ليوان كمصدر نابض للابتكار والإبداع."

وتردف قائلة: "بالإضافة إلى ذلك، فإن طاقته المتوهجة تبث الحياة في المكان. قدرته على التفاعل مع الحيّز المادي والمجتمع تجعله عضواً قيماً في عائلتنا الإبداعية."

زي نحتي أبيض على درج في ساحة تراثية، بينما تمر امرأة ترتدي عباءة سوداء.

على درجات القصر القديم، يستقر تصميم منحوت أبيض بثبات. تصوير: شيخة أحمد علي، بإذن من متاحف قطر ©2025

لا خطة نهائية. فقط إيقاع يومي، وقماش بين يديه، وصوت أم كلثوم أو وردة ينساب في الخلفية. بعض من قطع بنشلّال دخلت بالفعل إلى مجموعات المتاحف، مُرّسخة مكانتها في تاريخ الأزياء.
يقول: " لا أستطيع أن أتخيّل إرثاً أعظم من تصميم يُكتب له الخلود"، يقول. "فكرة أن ينتهي المطاف بفستانك ضمن مجموعة متحفية، تعني أنه بعد 200 أو 300 عام سيكون بالإمكان عرضه؛ وهذا يعني أن تصميمك أصبح خالداً."

يعكس حضور محمد بنشلال في الدوحة التزام متاحف قطر المستمر بترسيخ الحوار الثقافي والتبادل الإبداعي بين الثقافات.. فمن التكليفات الفنية مثل: "الحوارات السبعة" للفنان نور الدين أمين، الذي عُرض ضمن فعاليات معرض روائع الأطلس في متحف الفن الإسلامي، إلى مبادرات راسخة كبرنامج الإقامة الفنية في مطافئ: مقر الفنانين، تواصل متاحف قطر إرساء منصات تتقاطع فيها الموضة والفن والتراث. أما رحلة بنشلال، التي انطلقت من ليوان وتجلّت في متحف قطر الوطني وشكّلتها روح المجتمع، فتُجسّد تلك الرؤية بكل معانيها.