لاتينو أمريكانو: لغة الفن لحوار عابر للثقافات

في هذا الحوار، يشاركنا عيسى الشيراوي، رئيس قسم المعارض الدولية في متاحف قطر والقيّم المشارك لمعرض "لاتينو أمريكانو" رؤاه حول المفهوم الفني للمعرض، والجهود التعاونية التي أسهمت في إقامته، والأهمية الثقافية التي يحملها تقديم الفن الأميركي اللاتيني هنا في الدوحة وتعريف الجمهور به.

المشاركة مع صديق

ما الذي دفعكم لتنظيم معرض يركز على فن أميركا اللاتينية، وكيف تبلورت فكرة "لاتينو أمريكانو"؟

عيسى الشيراوي: خلف تنظيم هذا المعرض قصة تستحق أن تروى. ففي عام 2024، عقدت اللجنة الدولية للمتاحف ومجموعات الفن الحديث، وهي لجنة فرعية تابعة للمجلس الدولي للمتاحف، اجتماعها السنوي في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. لم يتسنّ لي حضور هذا الاجتماع، لكن متاحف قطر كانت حاضرة عبر زملاء آخرين، والذين زاروا متحف الفن اللاتيني الأميركي في بوينس آيرس (مالبا) كجزء من برنامج الاجتماع.

وعلى اعتبار أننا كنا نعلم قبل وقت كاف بمشاركة الأرجنتين وتشيلي في مبادرة "الأعوام الثقافية" التي كانت خططها قد وضعت بالفعل، تمثّل مسعانا في إيجاد المؤسسة المناسبة للدخول في شراكة معها تحضيراً لفعاليات هذه المبادرة، وقد وجدنا ضالتنا في متحف مالبا، لينطلق مسار التحضير بالفعل.

وهناك سبب أعمق لاختيارنا التركيز على فن أميركا اللاتينية، يتجاوز الجوانب اللوجستية، وهو تلك الروابط الغنية التي تجمع أميركا اللاتينية بمنطقتنا. فعلى سبيل المثال، احتفلت قطر والأرجنتين بمرور 50 عاماً على العلاقات الدبلوماسية بينهما. وبالعودة إلى عشرينيات القرن الماضي، شهدنا موجات من الهجرة العربية إلى أميركا اللاتينية من دول مثل فلسطين ولبنان وسوريا. هذه الروابط هي أكبر بكثير من مجرد "علاقات دبلوماسية"؛ إنها علاقة متجذرة صاغتها قصص وسرديات مشتركة، وهجرات متبادلة، وتأثر وتأثير ثقافي بين شعوب هاتين المنطقتين.

وهذا المعرض هو محاولة لإقامة جسر ثقافي بين منطقتين تفصل بينهما آلاف الأميال، لكن ما يجمعهما من روابط قد يفاجئ كثيرين.

الوصول إلى أميركا اللاتينية من قطر ليس بالأمر الهيّن، فالرحلة إلى البرازيل تستغرق 15 ساعة طيران، ثم توقفاً مؤقتاً (ترانزيت)، تليه عدة ساعات أخرى بالطائرة للوصول إلى بوينس آيرس. إنها رحلة طويلة، وهو ما يدلل على مدى التزامنا بهذه الشراكة.

هذا المعرض هو محاولة لإقامة جسر ثقافي بين منطقتين تفصل بينهما آلاف الأميال، لكن ما يجمعهما من روابط قد يفاجئ كثيرين.

عيسى الشيراوي

المعرض مقسّم حسب الموضوع، لا حسب التسلسل الزمني. ما الذي جعلكم تقررون ذلك، وكيف يبرز هذا التقسيم التنوع الفني لأميركا اللاتينية؟

عيسى الشيراوي: لقد آثرنا تقسيم المعرض حسب الموضوع لأن السرد التقليدي القائم على التسلسل الزمني غالباً ما يكون قاصراً عن إيصال الفكرة، فهو لا يعكس التعقيد أو التنوع في التعبير الفني، خاصة في منطقة غنية ومتنوعة ثقافياً مثل أميركا اللاتينية. لذلك نرى أن كثيراً من المعارض الفنية فضلت الابتعاد عن التقسيم الزمني.

تجنبنا كذلك تقسيم المعرض حسب المناطق الجغرافية، إذ لم نشأ أن نقع في فخ القول: "هذا هو شكل الفن الأرجنتيني"، بينما في الواقع، يمكن أن يكون لفنانين من نفس البلد أساليب ورؤى وأفكار مختلفة تماماً.

كما أن تقسيم المعرض حسب التسلسل الزمني لم يكن عملياً في حالتنا هذه. فالأعمال الفنية التي يضمها معرض "لاتينو أمريكانو" تعود لحقبة زمنية تمتد لأكثر من قرن؛ من لوحة كارلوس فيديريكو سايز التي تعود لعام 1900 وتعكس التراث الإسباني، إلى بورتريهات دالتون باولا التي تعود لعام 2023، وتُجسّد تاريخ الثوار البرازيليين المناهضين للعبودية. لذلك، لم تمنحنا البنية الموضوعية المرونة فحسب، بل قدمت أيضاً طريقة أعمق لتقديم تنوع وتعقيد فن أميركا اللاتينية.

لقد اخترنا موضوعات شاملة تلامس المشتَرَك الإنساني، مثل الهوية، والتمثيل، والطبيعة، والمدينة، والانتماء. ورغم عمقها وتعقيدها، تتيح هذه الموضوعات للزوار، وبغض النظر عن مدى إلمامهم بفن أميركا اللاتينية، أن يجدوا في المعرض ما يلامس تجاربهم الشخصية، أو ما يذكّرهم بمعارض أخرى سبق لهم زيارتها، سواء في قطر أو خارجها.

كيف جرى اختيار الأعمال الفنية والفنانين، وما هي السرديات أو المعايير الرئيسية التي بُنيت عليها هذه الاختيارات؟

عيسى الشيراوي: حين بدأنا باختيار الفنانين والأعمال، كان من البديهي أن نضم أسماء بارزة مثل فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا؛ إذ لا يمكن الحديث عن الفن اللاتيني الأميركي دون التوقّف عند أثرهما الكبير.

txt

"الطائر المُخيف"، من سلسلة "الوحوش الكونية" (1965)، أنطونيو بيرني (1905، روساريو، الأرجنتين، 1981، بوينس آيرس، الأرجنتين). خشب، وبرونز، وحديد، وفولاذ، وخوص، وقش، وإسفنج، وبلاستيك، ومينا، وأغصان. من مجموعة متحف مالبا. إهداء من إدواردو ف. كوستانتيني، 2001. حقوق الصورة: وضحى المسلّم، بإذن من متاحف قطر ©2025

txt

على اليمين: "أُحجية الصور" (1969)، خورخي دي لا فيغا (1930، بوينس آيرس، الأرجنتين، 1971، بوينس آيرس، الأرجنتين). أكريليك على قماش. من مجموعة متحف مالبا. إهداء من إدواردو ف. كوستانتيني، 2001. حقوق الصورة: وضحى المسلّم، بإذن من متاحف قطر ©2025

في المقابل، كان من الضرورة أيضاً تسليط الضوء على أسماء أخرى مهمة، مثل أنطونيو بيرني، الذي تحضر أعماله في المعرض بقوة وبأكثر من شكل، نظراً لغزارة إنتاجه، كما أن حضوره يرتبط بشكل وثيق بهوية متحف مالبا كمؤسسة فنية. وكذلك الحال مع العمل الضخم لخورخي دي لا فيغا، "أُحجية الصور"، الذي بات أحد أبرز الأعمال المرتبطة بهوية المتحف، لما يحتله من مساحة كبيرة داخله.

ومن الاعتبارات الرئيسية الأخرى كان تضمين قطع فنية تُبرز تاريخ متحف مالبا على صعيد العمل المتحفي والمقتنيات. أحد الأمثلة على ذلك هو عمل الفنان فرانسيس أليّز، الذي يمثل أول مشروع فني من إنتاج وتمويل المتحف، ويرجع إلى عام 2001، أي عند افتتاح المتحف. اختيار هذه الأعمال لا يسهم فقط في تقديم سردية أوسع عن الفن اللاتيني الأميركي، بل يعرّفنا كذلك على تاريخ متحف مالبا وهويته.

هل يمكنك اختيار أبرز الأعمال أو اللحظات التي تعتقد أنها ستلقى صدىً لدى الزوار؟

يُعدّ هذا الحدث أول معرض واسع النطاق لفن أميركا اللاتينية في قطر ومنطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا. كيف ترى مساهمة المعرض في إثراء الحوار الثقافي بين هاتين المنطقتين؟

عيسى الشيراوي: كنت في المعرض مؤخراً وصادفت بعض الزوار المكسيكيين. لقد عبروا عن سعادتهم ودهشتهم عندما اكتشفوا أن المعرض لا يقتصر فقط على أعمال فريدا ودييغو، بل يقدم أيضا طيفاً واسعاً من الفنانين المكسيكيين الآخرين، مثل كوفاروبياس، وراميرو سافارو، وسيكويروس، وتامايو، وجميعهم عُرضت أعمالهم على قدم المساواة مع أعمال فريدا ودييغو من حيث التقدير والاهتمام.

لذا، حين نتحدث عن "الحوار الثقافي"، فإننا لا نقصد فقط حواراً بين أميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل نشير أيضاً إلى الحوار الثقافي داخل أميركا اللاتينية ذاتها. فهذا المعرض يفتح مجالاً لتلاقي فنانين من دول متعددة، بعضهم لم يسبق له التواصل مع الآخرين من قبل.

كيف ساهم تعاونكم مع متحف مالبا ومجموعة إدواردو ف. كوستانتيني، ومبادرة "الأعوام الثقافية"، في إنجاز هذا المعرض؟

عيسى الشيراوي: كان التعاون الوثيق مع متحف مالبا أحد أكثر جوانب هذا المشروع تأثيراً وأهمية. حين سافرتُ إلى بوينس آيرس برفقة مصممة المعرض الشيخة الجازي آل ثاني لحضور ورش العمل، كان أكثر ما لفتنا هو مدى انفتاح فريق عمل المتحف وحفاوة ترحيبهم بنا. لقد أتاحوا لنا الوصول الكامل إلى مجموعاتهم ومخازنهم، يومياً وعلى مدار أسبوعين. جلسنا مع القيمين الفنيين، وتفحصنا الأعمال، واستمعنا إلى القصص الكامنة خلفها. لقد كانت شراكة عائلية حقيقية، وهذه الروح تنعكس في المعرض ذاته.

أما إدواردو كوستانتيني، مؤسس متحف مالبا، فكان في غاية الكرم، إلى درجة أن بعض الأعمال التي أعارها للمعرض لم يكن المتحف نفسه قد عرضها من قبل، وها هي تُعرض للمرة الأولى هنا في قطر.

وبالطبع، كان لمبادرة "الأعوام الثقافية" دور مهم، إذ يسّرت الكثير من اللقاءات والنقاشات، وسهّلت التواصل مع السفارات. لكن في نهاية المطاف، ما جعل هذا المشروع ممكناً هو تلك الشراكة الفاعلة والعميقة بين متحف مالبا، وإدواردو، ومتاحف قطر. لقد أدركنا جميعاً أهمية هذا المعرض، وبذلنا كل جهد ممكن لتحويله إلى واقع.

ما هي الخُلاصة أو العبرة التي تأمل أن يخرج بها زوار معرض "لاتينو أمريكانو"، سواء على الصعيد العاطفي أو الفكري أو الثقافي؟

عيسى الشيراوي: كثيراً ما يُطرح عليّ هذا السؤال، لكن إجابتي لا تتغير: لا توجد عبرة واحدة فقط. في واقع الحال، لا أرغب في أن أُملي على أحد ما يجب أن يخرج به. ما يهمني حقاً هو أن ينسج كل زائر علاقته الخاصة والفريدة مع الأعمال المعروضة. قد يكون ذلك من خلال اكتشاف فنان يوقد شرارة فضوله، أو أن تشده سردية معينة، أو  تُلهمه فكرة أو إبداع جديد.

فهذا المعرض لا يدّعي أنه عمل موسوعي يقدّم تعريفاً شاملاً لفنون أميركا اللاتينية. بل هو بالأحرى عرضٌ لمجموعة أعمال منتقاة ومنسقة بعناية من مجموعة متحف مالبا، يسلّط الضوء على محاور وأفكار محددة. من وجهة نظري، أرى أن هذه هي رسالة المعرض، ومفادها أن عالم الفن الأميركي اللاتيني أوسع بكثير مما نراه هنا، وأن المعرض ما هو إلا دعوة للجمهور كي يستكشف هذا العالم.

تستخدم العديد من الأعمال في المعرض خامات ووسائط غير تقليدية وعناصر من الثقافة الشعبية. كيف تعكس هذه الاختيارات الفنية هوية أميركا اللاتينية وتاريخها الاجتماعي والسياسي؟

عيسى الشيراوي: غالباً ما ترتبط الخامات غير التقليدية ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الشعبية، وكثير من الأعمال الفنية في هذا المعرض جاءت كرد فعل على ظروف اجتماعية وسياسية قاسية. هي أعمال وُلدت من رحم الأزمات، سواء كانت قمعاً سياسياً، أو اضطرابات اقتصادية، أو فقراً، أو كوارث بيئية.

txt

يساراً: تسعة ناجين (ريش) (1986 – 2007)، يوجينو ديتبورن (1943، سانتياغو، تشيلي)، طباعة حريرية على ورق وريش، مجموعة إدواردو ف. كوستانتيني.

حقوق الصورة: وضحى المسلم، بإذن من متاحف قطر، ©2025.

على سبيل المثال عمل يوجينيو ديتبورن "تسعة ناجين". هذا العمل أنجز خلال فترة حكم بينوشيه الديكتاتوري في تشيلي، وهي فترة اتسمت بالرقابة القمعية والمراقبة الأمنية وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. وبما أنه كان عاجزاً عن مغادرة البلاد، فقد ابتكر ما يمكن أن نطلق عليه "فن البريد"، حيث كان يطبع الصور على ورق الكرافت، ثم يطويها ويرسلها بالبريد إلى معارض في الخارج. وبهذه الطريقة، كانت أعماله الفنية تسافر حيث لا يستطيع هو الذهاب. لذا، بالنسبة لديتبورن، لم تكمن أهمية العمل في تلك الصور المطبوعة على الورق، بل في قدرته على تجاوز الحدود.

txt

خوانيتو النائم، من سلسلة "خوانيتو لاجونا" (1978) أنطونيو بيرني (1905، روزاريو، الأرجنتين، 1981، بوينس آيرس، الأرجنتين)، ألوان زيتية، وخشب، وعبوات صفيح، وقماش، وخيش، ومسامير، وورق، وورق معجّن، وصفيح على خشب معاكس، مجموعة مالبا، إهداء من إدواردو ف. كوستانتيني، 2001. حقوق الصورة: وضحى المسلم، بإذن من متاحف قطر، ©2025.

مثال آخر هو أنطونيو بيرني، ولوحاته التي تصور "خوانيتو"، ذاك الصبي الخيالي من أحياء بوينس آيرس الفقيرة. استخدم بيرني مواد عثر عليها في تلك الأحياء ليصنع منها لوحاته. هذه الخامات ترسّخ أعماله في واقع تلك السياقات المحلية وتفاصيل حياتها اليومية، وتجعل منها مرآة للظروف الاجتماعية التي يعبر عنها.

حصة الهتمي هي منسق تحرير محتوى في متاحف قطر.