الهيبة في بورتريه: السلطان محمد الثاني وفن النفوذ العابر للثقافات

في القرن الخامس عشر، وحين تلاقت خيوط السياسة بريشة الرسم، بزغ إرث فني غير مسبوق بين مدينة البندقية والإمبراطورية العثمانية. في قلب هذا المشهد، رأى السلطان محمد الثاني؛ الحاكم ذو الرؤية الثاقبة، في البورتريه أكثر من مجرد إبداع فني، بل أداة سياسة تخدم أهدافه الاستراتيجية.

المشاركة مع صديق

كان البحر المتوسط في النصف الثاني من القرن الخامس عشر ساحةً لصراع متقلب بين البندقية والإمبراطورية العثمانية — خصمان يتنافسان على السيطرة، ويرتبطان في الوقت ذاته بعلاقات تجارية معقدة. ورغم حدة المواجهات، شهد عام 884 هجري / 1479 ميلادي نقطة تحول فاصلة، لم تكن السياسة والتجارة عنوانه الوحيد، حين توصل الطرفان إلى معاهدة أنهت مرحلة من العداء، ومهّدت لعهد جديد من التبادل؛ إذ رأى السلطان محمد الثاني (835 – 886 هجري /1432 –1481 ميلادي) في هذه المعاهدة فرصة لتعزيز حضوره في أوروبا، فطلب من البندقية إرسال أحد فنانيها إلى بلاطه.

وقع الاختيار على جنتيل بيليني (1429 – 1507 ميلادي)، الذي كان أحد ألمع الرسامين في الجمهورية وأكثرهم دقة. كان بيليني أول فنان أوروبي يحظى بدعوة من سلطان عثماني. وهناك، في العاصمة العثمانية الجديدة، إسطنبول، أبدع بيليني ذلك البورتريه الزيتي الأيقوني، الغني بأدق التفاصيل. واليوم، تُعرض اللوحة الأصلية ضمن مجموعة المعرض الوطني في لندن.

النسخة المقتبسة

tbc

يظهر السلطان في هذا البورتريه وقد أدار كتفه نحو المشاهد، مما يضفي على اللوحة عمقاً وحركة بأسلوب بارع.

تعكس هذه اللوحة شديدة الروعة، ملامح البورتريه الأصلي الذي رسمه بيلّيني بحجم أصغر، ويُرجّح أنها من تنفيذ أحد تلامذته. خضعت وضعية الجلوس في البورتريه لتعديلات ملحوظة، مع الحفاظ على دقة فرشاة بيليني، وبأسلوب يحاكي الإيحاءات البصرية التي ميزت أعمال جورجوني وتيتيان ومن تبعهما.

لقد جسّد البورتريه الأصلي للسلطان، بملامحه الجانبية الصارمة، صورةً تلائم ذائقة البندقيين في أواخر القرن الخامس عشر، وبثّ في ناظري البلاط العثماني إحساساً بهيبة السلطنة. كلا اللوحتين تصوران السلطان بملامح جانبية، يعتمر عمامة بيضاء على خلفية سوداء، مع ثلاثة تيجان في كل من الزاويتيين العلويتين.

تصوّر جديد بعيون الجمهور الأوروبي

tbc

إعادة تصوّر للبورتريه بأسلوب يُبرز هيبة السلطان محمد الفاتح وبمفردات اللغة البصرية لبورتريهات أوروبا عصر النهضة.

في هذه النسخة من البورتريه، يظهر محمد الفاتح وقد أدار كتفه بحدة نحو المشاهد، ما أضفى على اللوحة عمقاً وحركية أكبر. وقد أُزيل الإطار المزخرف والدِرْوَة الأمامية اللذان شكّلا جزءاً من تركيب بيلّيني الأصلي، وهما من السمات المميزة للجماليات البنيوية في فن عصر النهضة، ما أتاح لبورتريه السلطان أن يتحرر من تلك الصرامة التكوينية التي لربما راحت تنظر إليها ذائقة مشاهدي أوائل القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي على أنها قديمة الطراز أو حتى متكلّفة.

تُظهر هذه التغييرات أن اللوحة لم تكن مجرد استنساخ، بل إعادة تصوّر كاملة، أُنجزت خصيصاً لتخاطب الذائقة الأوروبية. فقد كان الجمهور الأوروبي متعطشاً للوحات تُجسد السلطان بأسلوب يواكب تطوّر فن البورتريه الطبيعي الذي بدأ يفرض حضوره آنذاك.

تشكيل الهوية السياسية

هذه اللوحة التي تحدّت تقلبات الزمن، لم تكن مجرّد بورتريه، بل تجسيداً لطموحات السلطان السياسية، وتذكيراً بتعقيدات العلاقة بين العثمانيين وأوروبا، وبقدرة فن البورتريه السرمدية على عبور حدود الجغرافيا السياسية وعصور التاريخ.

ريم أبو غزالة، مساعدة أبحاث، متحف الفن الإسلامي

استكشف فنون الولايات العثمانية

خطط لزيارة متحف الفن الإسلامي لتشاهد هذا البورتريه الرائع عن كثب وتستكشف الإرث الفني الثري للولايات العثمانية - حيث تتلاقى السياسة والسلطة مع فن البورتريه.

خطط لزيارتك