سعى آي إم باي على امتداد مسيرته المهنية نحو إيجاد سُبلٍ لربط المنجزات التقنية والطموحات الاجتماعية للعمارة الحديثة بالثقافات المتنوّعة والتواريخ التي شكّلت مرجعاً لمشاريعه. لم يكن نهجه هذا محلَّ فهم أو ترحيب من الجميع، فمع حلول ثمانينيات القرن العشرين، ندّد بعض المعماريين والنقّاد الثقافيين باستخدام باي العمارة الكلاسيكية كمرجع، إذ اعتبروه مجرد مزج سطحي للأساليب المعمارية. غير أنّ باي لم يقصد بالعودة إلى النماذج الثقافية والتاريخية سوى استخلاص جوهرها؛ ليغذّي استراتيجياته في التصميم الشكلي والمكاني بما يلائم احتياجات المكان والاستخدام الراهن للمبنى. كان انخراط باي الدينامي مع التراث يضعه على الدوام في حالة جدل مثمر مع الواقع المعاصر السائد.

إعادة قراءة التاريخ بلغة التصميم
يسلّط هذا القسم من المعرض الضوء على تفاعل آي. إم. باي مع الثقافة والتقاليد، وكيف مزَجَ العمارة الحديثة بالتأثيرات التاريخية والإقليمية في مختلف أنحاء العالم.
تصميمٌ لصينٍ جديدة
نشأ باي في هونغ كونغ، وشنغهاي، وسوتشو خلال عهد الجمهورية المضطرب. وقد أسهم ذلك، إلى جانب تدريبه في الولايات المتحدة، في تشكيل تطلّعاته إلى بلورة رؤيةٍ جديدة وحديثة للمشاريع المرتبطة بالصين.
لم يكن إدماج باي العناصر الشكلية والمكانية المستوحاة من العمارة التاريخية في الصين مجرّد إعادة قراءة للماضي بدافع الحنين. إن فهمه وتطبيقه للعمارة الصينية التقليدية وفنون تصميم الحدائق، المتأثرين إلى حد كبير بتجربة عيشه في سوتشو، قد واصلا التطوّر عبر التعامل مع أنماطٍ متنوعة من المشاريع. فمن تصميم حرم جامعي إلى حديقة مائية مدرّجة تحيط بموقع بناء برج، ظلّت أعمال باي تكشف عن إدماجٍ منتظم ودينامي للخصائص البصرية، والمكانية، والفلسفية للبيئات الصينية التاريخية، دون أن يُغفل احتياجات الحاضر وأساليب العمارة الحديثة ومواكباً تطوّر المجتمع والتكنولوجيا.
جامعة تونغهاي (1954–1963)، تايتشونغ
بعد عام 1949، استعانت الجهة المسؤولة عن جامعة هوا تونغ بباي لتصميم جامعة تونغهاي. كان باي في تلك الفترة ما يزال يعمل لدى شركة ويب وناب في مدينة نيويورك، لذا استعان بالمعماريَّين الصينيَّين تشانغ تشاو-كانغ وتشن تشي-كوان للإشراف على تفاصيل التصميم وأعمال البناء. يعكس تصميم جامعة تونغهاي، القائم على تداخل المساحات الداخلية والخارجية، سعي باي إلى تحقيق التناغم بين الطبيعة والبيئة المبنيّة، وهو مبدأ يشكّل أساساً لكثير من فنون وعمارة الصين. استُلهم المخطّط غير المتناسق للمباني ذات الأسقف المنحنية، والمتكدسة حول فناء تتخلّله ممرات مشاة مغطاة، من العمارة الصينية المحلية. ومع ذلك، يتضمّن تصميم الحرم الجامعي أيضاً محوراً رئيسياً على النحو المألوف في الجامعات الأميركية، إلى جانب توظيفٍ مبتكر للخرسانة المسلحة مسبقة التصنيع والبناء بالإطارات الخشبية.
جناح تايوان في إكسبو 1970 (1970-1969)، أوساكا
كان سياسيّو حزب الكومينتانغ يرون في تايوان راعيةً للثقافة الصينية وحافظةً لها. لذلك، كانوا يفضّلون توظيف عناصر العمارة الصينية البارزة، مثل الأسقف مرفوعة الحواف ذات الجمالية الملكية. إلا أنّ جناح تايوان في إكسبو 1970 شكّل خروجاً عن هذا التوجّه. بصفته عضواً في لجنة تحكيم مسابقة تصميم جناح المعرض، وُجهت دعوة إلى باي ليطوّر مقترح التصميم الفائز، مما أسفر عن إنشاء مبنى أعلى، يتكوّن من كتلتين خرسانتين مثلثتَي الشكل تَضُمان قاعات العرض، تربط بينهما جسور أنبوبية متقاطعة داخل فناء مسقوف ذي أربعة طوابق. نجح باي بإقناع السلطات بقبول التصميم، مؤكداً أن شكل المبنى المتغيّر حسب زاوية النظر، وواجهته البسيطة، والمساحات الداخلية الأكثر تعقيداً والتي تتكشّف تدريجياً للزائر، إنما يعكس تجربة شبيهة بالتنزه في حديقة صينية تقليدية.
برج بنك الصين (1989-1982)، هونغ كونغ
في محاولة للتغلب على التحديات التي فرضها موقع برج بنك الصين؛ لجأ باي إلى إضافة حديقة صينية مدرّجة إلى التصميم لمنح المبنى حدوداً أفضل. ضمّ التصميم أيضاً ساحة بحديقة مائية مزينة بالصخور، ممتدة على طول منحدر مدرّج عند قاعدة البرج، تحاكي أشكالها المثلثيّة واجهة البرج ذات الزوايا الحادّة وقاعدته الجرانيتية. ومن المدخل الجنوبي العلوي للبرج، يمتد مجرى ماء يسري ماراً بحوضين متقابلين على جانبي المبنى في حلقةٍ مغلقة. كما جاءت هذه المساحات المنسّقة بعناية لتبديد الهواجس المتعلقة بزوايا المبنى الحادّة، التي يُعتقد أنها تجذب الطاقة السلبية وفق مبادئ فلسفة الفِنغ شوي.
متحف سوتشو (2006-2000)، سوتشو
يقع متحف سوتشو في الحي التاريخي الأعرق لمدينة سوتشو، بمحاذاة حديقة المسؤول المتواضع التي تعود إلى القرن السادس عشر، كما يضم التصميم قصراً أثرياً يعود إلى القرن التاسع عشر. استندت مداخلة باي الدقيقة إلى المنطقة المحيطة، حيث استمدت منها أسلوب التصميم، والمقياس، والمواد المستخدمة في النسيج العمراني المجاور. كانت النتيجة مجمّعاً مؤلفاً من جدران جصيّة بيضاء، وأسقف من الغرانيت الرمادي الداكن، أُقيم نصفه تحت سطح الأرض ليبقى المتحف أقل علوّاً من الأبنية المحيطة.
متحف ميهو (1997-1991)، شيغاراكي، شيغا
استوحى باي تصميم المدخل المؤدّي إلى متحف ميهو من أسطورة "ربيع زهر الخوخ" الصينية، التي كتبها الشاعر الصيني تاو يوانمينغ في القرن الخامس. وتروي الأسطورة حكاية صياد سمك يكتشف ممراً مخفيّاً يؤدي إلى الجنة الفاضلة. تبدأ تجربة زوار متحف ميهو برؤية المبنى لأول مرة عند نهاية نفق، حيث يظهر داخل إطار من الكابلات التي تحمل جسراً معلّقاً يمتد فوق وادٍ عميق. وجاء سقف المتحف الزجاجي، والمدعوم بأنابيب من الفولاذ الكربوني، ليلبي حاجة المكان إلى الضوء الطبيعي حيث بُني جزء كبير من المتحف تحت الأرض. كما يعكس تصميم المبنى المتعرّج طابع بيوت المزارع التقليدية الموجودة في الجوار، والتي تعود إلى حقبة إيدو.
المتحف التاريخي الألماني (1996–2003)، برلين
بعد إعادة توحيد ألمانيا عام 1989، كُلِّف باي بتصميم جناح جديد للمتحف التاريخي الألماني في برلين، داخل مبنى "تسوغهاوس" التاريخي. يقع الجناح الجديد بالقرب من جزيرة المتاحف، وهي مجمع ثقافي بارز، صُمم بحيث يكون مخفياً عن منطقة "أُنتر دن لِندِن" الشهيرة. وكما كان يفعل عادةً في مشاريعه، أخذ باي بعين الاعتبار المباني المحيطة عند تصميمه مدخل المبنى؛ حيث كان الزوار يسيرون على طول هذا الطريق الرئيسي ويمرون بمبنى بيت الحراسة الجديد التذكاري الذي صممه كارل فريدريش شينكل قبل وصولهم إلى جزيرة المتاحف. صمم باي الجناح الجديد على شكل مبنى مثلثي من الحجر الجيري يضم بهواً من الزجاج والفولاذ، ليشكل تبايناً مع المباني المجاورة ويوفر إطلالات على المعالم التاريخية المحيطة. وللحفاظ على الطابع المميز للأزقة المجاورة، أنشأ باي ممراً تحت الأرض يربط بين مبنى "تسوغهاوس" والجناح الجديد.
متحف الدوق الأكبر جان للفن الحديث (MUDAM) (2006-1989)، لوكسمبورغ
أثارت فكرة إنشاء مشروع جديد فوق أُسس حصن قديم يعود إلى القرن الثامن عشر اهتمام باي، الذي اختار أراضي حصن ثوينغن لتكون موقعاً لمتحف للفن الحديث في لوكسمبورغ. في مخططه الأولي؛ اتبع تصميمُ المتحف الشكلَ السهمي للحصن، لكن المحافظين على التراث عارضوا اقتراح باي الأولي بأن يدخل الزوار عبر الحصن التاريخي. وبعد إجراء بعض التعديلات، التي شملت نقل المدخل إلى الجهة الخلفية للمجمع، اكتمل بناء المتحف بعد 17 عاماً، في عام 2006. وتُوفر واجهة المبنى الزجاجية، ومساحاته المركزية الواسعة، والجسر الزجاجي الذي يربط أجزاءه، إطلالات مباشرة على الحصن التاريخي ومركز المدينة أدناه، لتضع الماضي في حوار حي مع المستقبل.
متحف الفن الإسلامي (2000–2008)، الدوحة
حين شرع باي في تصميم متحف الفن الإسلامي في قطر، وجد نفسه أمام تحدي العثور على فكرة تصميمية مركزية تجسّد ثراء مجموعة مقتنيات المتحف، التي تضم فنوناً إسلامية من قارات متعددة وقرون مختلفة. وبعد دراسته العمارة الإسلامية العائدة إلى أزمنة وأماكن متنوعة؛ انجذب باي إلى جامع ابن طولون في القاهرة، الذي اكتمل بناؤه في القرن التاسع. ويتدرج تصميم السبيل المُقبب للمسجد، وهو نافورة مخصصة للوضوء، بتسلسل هندسي ينتقل من الشكل المثمّن إلى المربع ثم إلى الدائرة، وهو منطق معماري ذو خصوصية ثقافية وتاريخية، لكنه في الوقت نفسه يتمتع بترابط كوني مفهوم. لقد وجد باي في بساطة هذا النموذج ما يجعله ملائماً لقطر، التي لم يكن لديها تقليد معماري محدد لبناءٍ بهذا الحجم.
فندق فراغرنت هيل (1979–1982)، بكين
بُني فندق فراغرنت هيل وسط غاباتٍ كانت في الماضي أراضي صيد إمبراطورية. يتّسم المبنى بمخطط متعرج يستحضر التكوين البصري والمكاني لحديقة صينية تقليدية. فما إن يعبر الزائر الساحة الأمامية حتى ينفتح أمامه مسار رؤية يمتد من الشمال إلى الجنوب، يقوده عبر ردهة الفناء إلى الحديقة الكبرى في الخارج. أما الممرات وغرف النزلاء، فقد رُتّبت بعناية لتطل جميعها على حدائق داخلية صغيرة، تتخللها أشجار عتيقة بأنواعها المختلفة على خلفية من الجدران البيضاء. وفي تزاوج بين الأصالة والحداثة، مزج باي بين خصائص العمارة الصينية والهياكل الحديثة، التي من أبرزها الهيكل الشبكي الفراغي الذي يزيّن سقف الردهة.
اعرف أكثر

آي. إم. باي: العمارة تُشكّل الحياة

العمارة والتصميم: تحويل الرؤية إلى حوار عالمي




