تميّزت مسيرة آي إم باي المهنية بالإتقان الفني والعبقرية في حل المشكلات، إلى جانب الحظ السعيد والمداومة على الانخراط مع العملاء النافذين والسياسة المحيطة بالمشاريع الكبرى. بدءاً من رؤساء البلديات حتى مديري المتاحف؛ كان باي يتمتع بقدرة فريدة على إثبات نفسه كشريك موثوق ذي حساسية صادقة تجاه احتياجاتهم. كثيراً ما تمكّن باي من إقناع عملائه بخوض مشاريع يتجاوز طموحهاً ما كانوا يتصورون في البداية، رغم التكاليف المترتبة على ذلك. وعلى امتداد مسيرته الطويلة، غيّرت هذه المشاريع الطموحة ملامح مدنٍ ومؤسسات شتى حول العالم. وفي الآن ذاته، واجه باي الخلافات مع عملائه ومعارضة الجمهور بشأن التغييرات التي ستُحدثها مشاريعه.

النفوذ، والسياسة، والرعاية
يسلّط هذا القسم من المعرض الضوء على براعة آي. إم. باي في تجاوز التحديات وتعاونه مع العملاء، من خلال استعراض المشاريع الطموحة التي أسهمت في تشكيل المدن والمعالم الثقافية حول العالم.
باي واللّوفر: تكليف غير مسبوق
في عام1981، أعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران عن خطة توسيع متحف اللّوفر، وعيّن إيميل بياسيني مديراً للمشروع. أُعجب بياسيني بتصميم باي للمبنى الشرقي للمعرض الوطني للفنون، وأوصى بتكليفٍ مباشر للمعماري. قَبِل باي بالعرض بعدما فرغ من دراسة الموقع لمدة أربعة أشهر بهدف اقتراح تصميم يوحّد المباني القائمة في مجمّع واحد. تطلبت العملية نقل وزارة المالية من جناح ريشيليو شمال المتحف، إضافة إلى حفر موقف للسيارات لإنشاء مستويين تحت الأرض، وهرم زجاجي في مركز فناء نابليون، وهو فناء المتحف الرئيسي. إضافة لهذه المهام الكبيرة، وجب على باي إقناع الفرنسيين بالترحيب بتصميمه الجريء لمعلمهم العزيز.
معركة الهرم
تلقى تصميم باي لمتحف اللّوفر انتقادات علنية شديدة، بلغت أوجها عامي 1984 و1985. غذّت الصحافة الفرنسية الجدل بإطلاقها لقب "بيت الموتى" على اللّوفر، في مقارنةٍ للمتحف مع مدافن مصر القديمة، ومُشبهةً فرنسوا ميتران بفرعون مصاب بجنون العظمة. بهدف "إنقاذ باريس"، تأسست رابطة مناهضة للتصميم المقترح، حتى أن الساسة اليمينيين استغلوا تصميم باي في صراعهم ضد حزب ميتران الاشتراكي.
نقطة التحوّل
عبّر عمدة باريس جاك شيراك عن دعمه لتصميم باي المقترح، ولكنه طلب تقديم مجسماً نموذجياً شامل النطاق للهرم الزجاجي، مما مثّل أيضاً محاولة لكسب الرأي العام الفرنسي. لتحقيق طلب العمدة، تم تعليق أربع كابلات مصنوعة من ألياف الكربون من رافعة بطريقة تحاكي شكل الهرم بأبعاده الحقيقية وفي الموقع المختار ذاته. تُرك النموذج فارغاً من الداخل لإثبات أن الهرم الزجاجي النهائي لن يحجب رؤية الموقع القائم حوله. شهِد الحدث أكثر من 60,000 من سكان باريس، مما أفضى عن موافقة شيراك على تصميم باي المقترح، ومالت الكفة أخيراً لصالح باي. مع افتتاح المتحف عام 1989 واكتمال تجديد جناح ريشيليو عام 1993، أصبح اللّوفر المُحدَّث مصدر فخر ثقافي جديد لباريس.
مكتبة ومتحف جون كينيدي الرئاسية (1979-1964)، دورشستر، ماساتشوستس
عقب أحداث اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي عام 1963، بحثت عائلة الرئيس عن معماري يُصمم مكتبته الرئاسية، التي اشتملت أيضاً على متحف، وأرشيف، ومدرسة لتعليم السياسة. بصفته أحد الثمانية عشر مدعواً من المعماريين البارزين، فضّل باي أن يصارح أرملة الرئيس الراحل، جاكلين، بخبرته المحدودة في مجال المشاريع الضخمة. إلا أن صراحته أوجدت معها حالة من الأُلفة، فوقع اختيارها على باي. استغرق إنجاز المشروع في صورته النهائية خمسة عشر عاماً، نتيجة لعدة عوائق منها عدة تغييرات للموقع، وتحولات غير متوقعة في الحكومة، ولعل العقبة الأكبر كانت خسارة جاكلين كداعمة علنية أساسية عقب زواجها الثاني عام 1968.
مبنى بلدية دالاس (1966–1977)، دالاس، تكساس
في عام 1966، اختار عمدة مدينة دالاس إريك جونسن آي إم باي لتصميم مبنى البلدية الجديد. وجاءت هذه الخطوة كمحاولة من جونسن لإعادة تصوّر المدينة ككيان تقدّمي يتطلع إلى الأمام؛ عقب صدمة أحداث اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي عام 1963 والتي وقعت فيها. قدّم باي تصوراً لمبنى إسمنتي مكشوف يرتكز حجمه في جزئه العلوي ويصغر تدريجياً قرب القاعدة. كما أقنع باي مسؤولين بالمدينة على الحصول على قطعة أرض مجاورة لتُصبح ساحة عامة، هي الأولى في مركز المدينة، تتوسطها منحوتة لهينري مور وتظللها أشجار محلية. ورغم التكاليف الباهظة للبناء، حظي المشروع بدعم مسؤولي المدينة الذين ابتكروا وسائل تمويلية بديلة، منها استثمار مواقف السيارات تحت الساحة لتوليد الإيرادات.
فندق فراغرنت هيل (1979–1982)، بكين
في إطار سياسة "التحديثات الأربعة" التي بدأ تطبيقها عام 1978 بهدف النهوض بالاقتصاد الصيني في مجالات الزراعة، والصناعة، والدفاع، والعلوم والتكنولوجيا؛ دعا مسؤولون صينيون باي لتصميم فندق شاهق في قلب بكين لدعم السياحة. غير أنّ باي قدم رؤيةً بديلة تتمثل بفندق منخفض الارتفاع في الجبال الواقعة شمال غرب بكين، على أراضي الصيد الإمبراطورية السابقة، لحماية "المدينة المحرمّة" من أي منافساتٍ بصرية. وقد أدى اقتراحه هذا إلى تبني سياسة جديدة تحدّد ارتفاعات البناء حول المدينة، أطلق عليها اسم "قيود باي على الارتفاع". لكن مشروع فندق فراغرنت هيل لم يخلُ من التعقيدات؛ إذ أصرّت الحكومة على إدارة الفندق بنفسها رغم اتفاقٍ مع المستثمر على الاستعانة بشريك تشغيلي ذو خبرة، مما ولّد خلافات وسوء إدارة أفسدتا رؤية باي للمشروع.
متحف ميهو (1991–1997)، شيغاراكي، شيغا
تُعد منظمة "شينجي شوميكاي"، التي أسستها وريثة شركة "تويوبو للمنسوجات" كوياما ميهوكو، منظمةً دينية تؤمن ببلوغ التنوير عبر التأمل في الجمال. تردد باي بقبول المشروع، الذي بدى محدود الحجم، عندما طلبت منه كوياما تصميم برج جرس يستكمل مجمع الملاذ الروحي للمنظمة. ولكن زيارةً للموقع غيّرت رأيه وأقنعته بتنفيذ المشروع، الذي كان بداية شراكة طويلة الأمد أثمرت أبرز إنجازاته المعمارية؛ من بينها متحف ميهو عام 1997، يليه مصلى معهد ميهو للتجميل عام 2012.
متحف الفن الإسلامي (2000–2008)، الدوحة
كان متحف الفن الإسلامي في قطر الأول من بين عدة متاحف أطلقتها هيئة متاحف قطر، في إطار رؤية تهدف إلى جعل البلاد مركزاً ثقافياً عالمياً. وقد نجح الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر آنذاك، في إقناع باي بالعودة من تقاعده لتولي تصميم المشروع، بعد أن رُفض التصميم السابق لعجزه عن تجسيد رؤية المتحف للفن الإسلامي كإرث إقليمي وعالمي في آن واحد. استلهم باي تصميمه من المنطق الشكلي لمسجد أحمد بن طولون في القاهرة، والذي يعود إلى القرن التاسع الميلادي، حيث يتدرج تصميم باي من مثمّن، إلى مربع، ووصولاً إلى دائرة. ومنح هذا الانتقال الهندسي التصميم بصمة محلية ذات صدى عالمي في آن واحد.
المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي (1967-1961)، بولدر، كولورادو
يُعَد المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي في بولدر، كولورادو، أول مشروع ضخم لآي إم باي خارج حدود المناطق الحضرية. وقد أُعجب مدير المركز، والتر أور روبرتس، بشهرة باي في التعاون الوثيق مع العملاء، وباستخدامه الخرسانة كخيار بنائي يراعي القيود المالية، فأوكل إليه مهمة تصميم مبنى ينسجم مع التكوينات الصخرية المحيطة التي يطلق عليها "فلاتآيرونز" نسبة إلى شكلها. اشتملت خطة باي على طريق منحني يقود إلى مدخل المجمع، مُقدماً للزائر إطلالة بانورامية على الهضبة قبل أن يظهر المبنى تدريجياً في الأفق. كما أراد روبرتس أن يوفر تصميم باي بيئة عمل تحفز على البحث العلمي والتأمل.
اعرف أكثر

آي. إم. باي: العمارة تُشكّل الحياة

العمارة والتصميم: تحويل الرؤية إلى حوار عالمي




