اعتبر آي إم باي كلّاً من الشكل، والمادّة، والتقنية عناصر لا يمكن فصلها عن بعضها بعضاً. وقد أجرى فريقه أبحاثاً موسَّعة لابتكار العديد من الحلول المادّية والبنيوية التي تدفع بالتصميم المعماري إلى آفاق جديدة. وقاد باي، تحت إدارة ويب وناب، ولاحقاً من خلال مكتبه الخاص، فريقاً تشاركياً استكشف طرقاً غير تقليدية لتوظيف المواد. ومن خلال هذه التجارب، اكتشفوا تنوع استخدامات الخرسانة، والحجر، والزجاج، والفولاذ دون المساس بالمتانة البنيوية أو الكفاءة الاقتصادية. تكشف المشاريع المعروضة في هذه الغرفة عن حساسية باي تجاه مواد البناء وقدرتها على إضفاء الحيوية على المساحات التي نعيش فيها، فضلاً عن الجهود الاستثنائية التي بذلها باي للوصول إلى هذه الحلول.

الابتكارات المادّية والبنيوية
يسلّط هذا القسم من المعرض الضوء على إبداع آي. إم. باي الرائد في توظيف المواد والهندسة التعاون القائم على الابتكار، مستعرضاً تصاميمه الأيقونية حول العالم باستخدام الخرسانة والزجاج والصلب.
رؤى صلبة
الخرسانة مزيج من الأسمنت، والهواء، والماء، والرمل، والحصى، استُخدمت في البناء والإنشاء منذ آلاف السنين. في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ البناؤون باستخدام الخرسانة المسلحة بالفولاذ، لما توفره من قدرة على دعم الأشكال المعمارية المستقيمة والمنحنية على حد سواء.
مع تزايد شعبية الخرسانة كعنصر بنائي خلال جهود إعادة الإعمار عقب الحرب العالمية الثانية؛ بدأ مكتب باي باختبار أنواع مختلفة من الأسمنت، والرمل، والركام المستخرج من مختلف أنحاء أميركا، مستكشفين إمكانات المادة كعنصر بنائي وكذلك كتشطيب داخلي أو خارجي. اختبر فريق باي أوقات ضبط الخليط، وتقنيات الصب والاهتزاز، ومعالجات سطح الخرسانة، محسنين بتجاربهم استخدام مادة كانت معروفة بتفاوت ألوانها، وتشققها، وحساسيتها لتغير درجات الحرارة، كما استخدموا الخرسانة كبديل اقتصادي للحجر. واستكشف باي في مشاريع مثل المبنى الشرقي للمعرض الوطني للفنون كيفية تعزيز الخرسانة للرخام وتحقيق الكفاءة الهيكلية.
كيبس باي بلازا (1957–1962)، نيويورك
في ظل قيود صارمة على الميزانية، لجأ باي إلى الخرسانة المسلحة في مشروع كيبس باي بلازا في نيويورك. كانت الخرسانة المسلحة تُستخدم آنذاك في الطرق السريعة وغيرها من مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق. أجرى فريق باي أبحاثاً مكثفة على الخرسانة المسلحة وابتكروا مزيجاً خرسانياً خفيف الوزن يصلح للواجهات والحمولات الثقيلة. أصبح مشروع كيبس باي بلازا نموذجاً تتبعه بقية مشاريع الإسكان منخفضة التكلفة.
المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي (1967-1961)، بولدر، كولورادو
استلهم باي تصميم المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي من المساكن الصخرية لشعوب بويبلو القديمة المتواجدة بالجوار، والتي تبدو كامتداد طبيعي لمحيطها، ليخلق تصميماً متناغماً مع المشهد الطبيعي المحيط. ويظهر تأثير هذه الآثار، الموجودة في محمية ميسا فيردي الوطنية، على أبراج المركز في تصميمها المكعّب والمظلل، ونوافذها التي تشبه ثقوب المفاتيح. اختار باي أن يمنح الخرسانة التي تكسوا واجهات المجمع مظهراً خشناً باستخدام الدّق على الحجر، وهو أسلوب يكشف عن الحصى البني المحمر داخل خليط الخرسانة. أضفت هذه التقنية درجات لونية وردية وحمراء على المبنى، مما ساعد على دمجه بصرياً مع تكوينات صخور (فلات آيرونز) الحمراء الشهيرة التي تحيط بالموقع.
مبنى بلدية دالاس (1966–1977)، دالاس، تكساس
تمثّل التحدي الأكبر أمام باي عند تصميمه مبنى بلدية دالاس في توفير مساحة كافية لجميع إدارات البلدية. وعلى الرغم من أن المكاتب المخصّصة لاستقبال الجمهور تتطلّب أقل المساحات، فإن باي أصرّ على وضعها في الطابق الأرضي لتسهيل وصول الزوار إليها، وهو ما قاده إلى اعتماد شكل الهرم المقلوب للمبنى. إذ تزداد مساحة كل طابق علوي بمقدار 2.8 متر عن الطابق الذي تحته، ما يخلق واجهة بانحدار داخلي لافت. وقد جاء استخدام الخرسانة المكشوفة استجابةً للميزانية المحدودة. وتضمّن التصميم نظام شدّ لاحق متطوّر يعزّز الكفاءة الإنشائية، ويوظف خلطة خرسانية مبتكرة تحدّ من التشققات التي عادةً ما تحدث أثناء مرحلة المعالجة.
كنيسة لوس التذكارية (1954–1963)، جامعة تونغهاي، تايتشونغ
أراد باي لكنيسة لوس التذكارية أن تكون العنصر المعماري المحوري في جامعة تونغهاي. التصميم، المُنجز بسقف يحاكي شكل هيكل سفينة خشبية مقلوبة، جاء مكوَّناً من أربعة ألواح إنشائية منفصلة تتقاطع عند خطوط ضيّقة من النوافذ السقفية. ونظراً لمستوى التعقيد العالي في تصميم السقف، اقتضى التنفيذ اعتماد شبكة إنشائية داعمة من الخرسانة المسلحة. ومع استبدال المادة البنائية في المخطط الأصلي من الخشب إلى الخرسانة، اضطر المقاولون المحليون إلى دمج تقنيات البناء الخرسانية الحديثة مع الخبرات التقليدية الراسخة في العمل بالخشب والخيزران.
الزجاج والفولاذ
إلى جانب عمله بالخرسانة المسلحة والحجر، برع باي في توظيف خصائص الزجاج والفولاذ لتشييد مبانٍ تبدو شفافة وخفيفة، مع الحفاظ على الكفاءة الإنشائية، والجمالية البسيطة، والتميز في التصميم.
بدأ باي بتجربة الهياكل الزجاجية والفولاذية في خمسينيات القرن العشرين، مستفيداً من تقنيات البناء الحديثة آنذاك ومن خبرات هندسية متخصّصة. وقد شكّل تصميمه لنافذة الزجاج السقفية فوق بهو المعرض الوطني للفنون بواشنطن العاصمة، الذي اكتمل عام 1978، أول تطبيق ناجح له لاستخدام الزجاج والفولاذ كعناصر إنشائية لإنجاز الواجهات والأسقف.
المبنى الشرقي للمعرض الوطني للفنون (1968–1978)، واشنطن العاصمة
في تصميمه المبنى الشرقي للمعرض الوطني للفنون، وظف باي الشكل، والهيكل، والمادة البنائية ليخلق امتداداً معاصراً للمبنى الغربي الأقدم عمراً. فاستخدم الحجر ذاته، وهو رخام تينيسي الوردي، في إكساء الواجهات الخارجية، واعتمد لداخلية المبنى خرسانة مكشوفة ذات درجات لون وردية مماثلة لتلك المستخدمة في المبنى الغربي. ولخلق صلة بصرية ومكانية بين المبنيين؛ استلهم باي من المبنى الغربي الحضور المهيب الذي منحه إياه هيكله الحجري. وجاءت الواجهة الأمامية للمبنى الشرقي بحافة حادّة، منحته شكله الأيقوني المثلث، وجسدت إحساس الصلابة الموروث من المبنى القديم. ويزداد الطابع المثلثي في التصميم وضوحاً عند النظر إلى نافذة الزجاج مثلثية الشكل في سقف البهو.
برج بولارويد (1969؛ لم يُنفَّذ)، كامبردج، ماساتشوستس
صمّم باي هذا البرج المؤلف من 45 طابقاً ليكون المقرّ الرئيسي الجديد لشركة "بولارويد" في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس. واستند تصميم البرج، الذي ظل حبراً على ورق، إلى استخدام دعامات خارجية تُشبه الشبكة التي تغلّف خزّانات الغاز الصناعية. ويلتف النظام الإنشائي للمبنى، وهو نظام مؤلَّف من عوارض فولاذية مرتّبة بشكل قطري وأفقي، حول الواجهة الزجاجية، مما يُلغي الحاجة إلى دعائم داخلية.
برج بنك الصين (1982–1989)، هونغ كونغ
جاءت تصاميم باي الأنيقة والمتدرّجة لبرج بنك الصين في هونغ كونغ لتلبّي في آنٍ واحد الحاجة إلى القوة الإنشائية والرغبة في تحقيق حضور بصري بارز. وليكون قادراً على مقاومة الزلازل وتلبية متطلّبات الأحمال الريحية المحلية؛ صُمّم المبنى بدعامات قطرية متقاطعة تربط بين أعمدته الخمسة الرئيسية: عمود في المركز وأربعة عند أركان المبنى. يظهر هذا النظام الإنشائي ثلاثي الأبعاد في التصميم عبر شبكة الماسات المتداخلة التي تزيّن واجهة البرج.
اللّوفر الكبير (1983–1993)، باريس
جاءت رؤية باي لمتحف اللوفر متبنيةً أسلوباً يحترم التقاليد المعمارية ويتحداها في آن واحد. اختار باي الهرم الزجاجي كالنموذج المعماري الأمثل: ثابت إنشائياً وذو شكل هرمي لا يحجب الرؤية عن سائر محيطه التاريخي. وكمحاولة إضافية للتقليل من الحجب البصري الذي سيسببه الهرم، حرص باي على أن يكون الهرم بحسب تعبيره: "شفافاً بالقدر الذي تسمح به تكنولوجيا العصر". يقوم التصميم النهائي على هيكل فولاذي مركّب من أجزاء تعمل بتوازن متزامن بين الشدّ والضغط، يحمل غلافاً زجاجياً شديد الشفافية. وقد مثّل كلا العنصرين إنجازاً رائداً ألهم مجالات الابتكار في عوالم العمارة والصناعة.
مصلى معهد ميهو للتجميل (2008–2012)، شيغاراكي، شيغا
أراد باي للمصلى أن يكون معلماً بصرياً محورياً يُنظم المشهد داخل حرم معهد ميهو للتجميل. فاعتمد له تصميماً مبتكراً يشبه قطرة الماء، يمكن تمثيله ببساطة عبر ثني ورقة ذات شكل مروحة حتى تلتقي أطرافها. غير أن نقل هذا التصميم المخروطي من الورق إلى أرض الواقع مثّل تحدياً كبيراً لم يُحل إلا من خلال الحسابات الهندسية الدقيقة. ونظراً لمتطلبات العزل الصوتي والحراري، كان لا بد من اعتماد هيكل خرساني، إلا أن باي نجح بتطبيق الشكل المنحني الذي ابتغاه عبر تغليف المبنى بألواح من الفولاذ المقاوم للصدأ، من إنتاج شركة "كيكوكاوا" اليابانية، والتي تنتج اليوم الألواح ذاتها لفروع شركة "آبل" حول العالم. أما داخل المصلى، تخفي ألواح حمراء القشرة الإنشائية، ما يضفي جواً من السكينة يساعد على التفكر والتأمّل.
نموذج مبنى على شكل سطح زائدي (1954–1956؛ لم يُنفّذ)، نيويورك
في محاولة لإنعاش قطاع السكك الحديدية المُتعثر؛ وجّهت شركة نيويورك المركزية للسكك الحديدية، التي كانت على شفا الإفلاس، دعوةً إلى باي في منتصف خمسينيات القرن العشرين لإعادة تصوّر محطة غراند سنترال الشهيرة. استجاب باي للعرض بتصميمٍ لمبنى على شكل سطح زائدي يبلغ ارتفاعه 456 متراً، وهو عبارة عن هيكل أنبوبي عريض القمّة والقاعدة. يتضمن التصميم أعمدة متقاطعة قطرياً تشكّل هيكلاً خارجياً ذا كفاءة عالية، حيث يتطلب بناؤه كمية الفولاذ ذاتها المستخدمة في مبنى إمباير ستايت، مع أنّ الأخير أصغر بنسبة عشرين في المئة من مبنى باي. يُعَدّ هذا المشروع أول تصميم لناطحة سحاب يبتكره باي، على الرغم من أنّه لم يُنفّذ قط.
منزل باي (1952)، كاتونا، نيويورك
في عام 1952، صمّم باي وبنى منزلاً ريفياً لعائلته في قرية كاتونا بريف ولاية نيويورك. أعاد باي في هذا المشروع تجسيد فكرة البيوت الزجاجية الحديثة، حيث تلتف شرفات واسعة مطوقّة بألواح زجاجية ثابتة ومتحركة حول غرف النوم، ودورات المياه، والمطبخ، ومساحات المعيشة الداخلية. أوجد هذا التصميم منزلاً داخل منزل، قادراً على التكيّف مع برودة الشتاء القارس وحرارة الصيف الشديدة في المنطقة. كما استلهم باي تقنية البناء بالأعمدة الخشبية المتقاطعة من معابد الصين التقليدية وطبّقها في أساسات المنزل، ليبدو المبنى وكأنه يطفو فوق الأرض.
المبنى الحلزوني (1948–1949؛ لم يُنفَّذ)، نيويورك
كان مبنى الشقق السكنية الحلزوني أول مشروع قدّمه باي لشركة ويب وناب. رصّ باي في تصميمه وحداتٍ سكنية إسفينية الشكل، تضُم أكثر من مستوى، في عمودٍ يلتف صعوداً حتى 21 طابقاً. يتميز التصميم بمساحة مركزية مشتركة بين الوحدات السكنية، يمنح المستأجرين القدرة على التحكم بمساحة الشقق حسب الرغبة عبر دمج أو فصل الوحدات السكنية. رغم أن المبنى لم يُنفَّذ، إلا أن رئيس الشركة، ويليام زيكيندورف، سجل براءة اختراع للتصميم المبتكر.
عملية ابتكار تعاونية
عندما انضم باي إلى شركة ويب وناب للتطوير العقاري عام 1948، زوده المطوّر ويليام زيكيندورف بالموارد اللازمة لتكوين فريق عمل. كان هذا الفريق ذاته نواة مكتب باي الخاص، حيث استعان بفريق معماري يضم أكثر من 70 شخصاً في تأسيس مكتبه تحت اسم آي إم باي وشركاه عام 1955، قبل إعادة تسميته لاحقاً بآي إم باي وشركاؤه، ثم باي كوب فريد وشركاؤه. كان باي بارعاً في اكتشاف مواهب موظفيه وصقل خبراتهم، وفي تعزيز لغة تصميم مشتركة وثقافة عمل تعاونية. وقد اشتهر مكتبه بممارسته التعاونية، وبحثه في مجال المواد البنائية والتقنيات، وسعيه الدؤوب نحو التميّز. في ذروة نشاطه، كان المكتب يضمّ مجموعة من عينات الإسمنت، ومكتبة حجر، وورشة لإنتاج النماذج المعمارية المصغّرة.
هندسة باي
تُعرف المباني التي صممها باي بأشكالها الهندسية اللافتة، حيث كان كثيراً ما يلجأ إلى الأشكال الهندسية لمعالجة القضايا المتعلقة بقيود الموقع والمتطلّبات الإنشائية. فمثلاً، شكّل المثلث عنصراً تأسيسياً في تصميم هرم اللوفر بباريس وبرج بنك الصين في هونغ كونغ. ونلاحظ في متحفي سوتشو والفن الإسلامي في الدوحة دمج باي للأشكال البسيطة ليبتكر تكويناتٍ مضلعة أكثر تعقيداً. لا تتميز هذه المبانِ بجاذبيتها البصرية وحسب؛ بل تُعتبر إنجازاتٍ هندسية استثنائية.
جرِّب أن تبني مبنًى أو اثنين مستوحَيين من بعض مشروعات باي. رغم أنّ هذه النماذج ليست نسخاً مطابقة لأعماله، ولكنك ستجرب التعامل مع الأشكال الهندسية، بل وقد تبتكر تصميماً جديداً كلياً!
اعرف أكثر

آي. إم. باي: العمارة تُشكّل الحياة

العمارة والتصميم: تحويل الرؤية إلى حوار عالمي




